سورة الحجر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


ولما تم ذلك، سبب عن القضاء دابرهم قوله تعالى: {فأخذتهم} أي أخذ انتقام وغلبة {الصيحة} أي التي هي لعظمها وهولها هي الصيحة، وغيرها عدم بالنسبة إليها؛ والأخذ: فعل يصير به الشيء في جهة الفاعل، والصيحة: صوت يخرج من الفم بشدة؛ وقوله: {مشرقين} أي داخلين في الإشراق، وهو ضياء الشمس عند بزوغها، وتبين به أن وقته يسمى صبحاً لغة، فإن الصبح والصبّاح والإصباح أول النهار، ولعله يطلق عليه إلى وقت الغداء أو الزوال، أو تكون الصيحة وقت الإشراق آخر أمرهم، وقلع المدائن من أماكنها وقت الصبح ابتداء أمرهم؛ ثم بين سبحانه ما تسبب عن الصيحة متعقباً لها فقال: {فجعلنا عاليها} أي مدائنهم {سافلها وأمطرنا}.
ولما كان الزجر في هذه السورة أعظم من الزجر في سورة هود عليه السلام، لطلبهم أن يأتي بجميع الملائكة، أعاد الضمير على المعذبين لا على مدنهم- كما مضى في سورة هود عليه السلام- لأن هذا أصرح، فقال: {عليهم} أي أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم {حجارة من سجيل} ثم حقق أن ذلك كله شرح لقوله: {وليذكر أولوا الألباب} بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم جداً {لآيات} أي عدة من جهة غمرها بالماء بعد خسفها، ومن جهة كونه مخالفاً لمياه الأرض بالنتن والخباثة، وعدم عيش الحيوان فيه، وعدم النفع به، ومن جهة فظاعة منظرة- وغير ذلك من أمره {للمتوسمين} جمع متوسم، وهو الناظر في السمة الدالة- وهي الأثر الدال في الوجه- والقرائن القاضية بالخير والشر، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بمثل ذلك، فهو إلهاب لهم وتبكيت؛ ثم بين أن ذلك غير خفي عنهم ولا بعيد عمن أراد الاتعاظ به، فقال جعلاً لهم- لعدم اعتبارهم بها ومع رؤيتهم إياها في كل حين- في عداد المنكرين: {وإنها} أي هذه المدائن {لبسبيل مقيم} أي ثابت، وهو مع ذلك مبين، فالاعتبار بها في غاية السهولة لقومك، وكانوا يمرون عليها في بعض أسفارهم إلى الشام.
ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال بالتوسم الدال- مما هي عليه من المخالفة لسائر مياه الأرض العذبة الورادة إليها على كثرتها ومع أن البلاد التي هي بها من أبهج البلاد في عذوبة المياه وطراوة الأرض وحسن الأشجار وغير ذلك- على أن لها نبأ هو في غاية الغرابة، وأتبع ذلك سهولة الوصول إليها حثاً على إتيانها بقصد نظرها والاعتبار بها والسؤال عن سبب كونها كذلك، قال تعالى مشيراً إلى زيادة الحث بالتأكيد: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من حالها {لآية} أي علامة عظيمة في الدلالة علينا {للمؤمنين} أي الراسخين في الصدق والتصديق، فإذا أخبروا أن سبب كونها هكذا أن الله أمر بعض جنده فرفعها ثم قلبها ثم أتبعها الحجارة ثم خسف بها وغمرها بهذا الماء- الذي هو في القذارة وعدم الثمرة مناسب لأفعال أهلها- لأجل عصيانهم رسوله صلى الله علية وعلى آله وسلم، آمنوا حذراً من مثل هذا العذاب إيماناً بالغيب.
ولما ذكر هذه القصة، ضم إليها ما هو على طريقها مما عذب قومه بنوع آخر من العذاب يشابه عذاب قوم لوط في كونه ناراً من السماء، فقال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يكون عذابهم لأجل التكذيب، أو عدّاً لهم- لأجل تماديهم على الغواية مع العلم به- عداد المنكرين: {وإن} أي وإنه {كان} أي جبلة وطبعاً {أصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب عليه السلام؛ والأيكة: الشجرة- عن الحسن، وجمعه الأيك كشجرة وشجر، وقيل: الأيكة: الشجر الملتف {لظالمين} أي العريقين في الظلم {فانتقمنا منهم} أي بسبب ذلك؛ ثم أخبر عن البلدين لتقاربهما في العذاب والمكان وكونهما على طريق واحدة من طرق متاجر قريش فقال: {وإنهما} أي قرى قوم لوط ومحال أصحاب الأيكة {لبإمام} أي طريق يؤم ويتبع ويهتدي به {مبين} واضح لمن أراده، بحيث إنه من شدة وضوحه موضح لعظمة الله وانتصاره لأنبيائه ممن يكذبهم، وهو مع وضوحه مقيم في مكانه لم تندرس أعلامه، ولم تنطمس آثاره، فالآية من الاحتباك: ذكر في الأولى {مقيم} دلالة على حذف مثله ثانياً، وفي الثانية {مبين} دلالة على حذف مثله أولاً.


ولما كان ربما قيل: إنه لو كان لأصحاب الأيكة بيوت متقنة لمنعتهم من العذاب؟ عطف عليهم من هم على طريق أخرى من متاجرهم إلى الشام، وكانوا قد طال اغترارهم بالأمل حتى اتخذوا الجبال بيوتاً، وكانت آيتهم في غاية الوضوح فكذبوا بها، تحقيقاً لأن المتعنتين لو رأوا كل آية لقالوا إنما سكرت أبصارنا فقال: {ولقد كذب}.
ولما كان السياق للمكذبين وما وقع لهم بتكذيبهم، قدم فاعل، فقال مشيراً إلى إتقان بيوتهم: {أصحاب الحجر} وهم ثمود قوم صالح عليه السلام، وديارهم بين المدينة الشريفة والشام {المرسلين} أي كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك، لأن الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع، وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء؛ ثم أتبع ذلك قوله: {وءاتيناهم} أي بعظمتنا على يد رسولهم صالح عليه السلام {ءاياتنا} أي كلها، بإيتاء الناقة وسقيها ودرها وشربها، لأن الممكنات كلها بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فمن كذب بواحدة منها فقد كذب بالجميع {فكانوا} أي كوناً هو كالجبلة {عنها} أي الآيات كلها خاصة، لا عن زينة الدنيا التي تجر إلى الباطل {معرضين} أي راسخين في الإعراض، لم يؤمنوا بها، التفاتاً إلى قوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} الآيتين، وتمثيلاً له رداً للمقطع على المطلع؛ ثم أخبر أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشد منهم فقال: {وكانوا ينحتون} والنحت: قلع جزء بعد حزء من الجسم على سبيل المسح {من الجبال} التي تقدم أنا جعلناها رواسي {بيوتاً ءامنين} عليها من الانهدام، وبها من لحاق ما يكره، لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة {فأخذتهم} أي فتسبب عن تكذيبهم أن أخذتهم أخذ العذاب والانتقام {الصيحة} حال كونهم {مصبحين} أي داخلين في الصبح {فما} أي فتسبب عن الصيحة أنه ما {أغنى} أي أجزأ {عنهم ما كانوا} أي بجبلاتهم {يكسبون} من البيوت والأعمال والعدد والآلات الخبيثة، لأنه لا يعجزنا شيء لأنه لا كلفة علينا فيما نفعل {إنما نقول له كن فيكون} وفعلنا بهم ذلك لأنهم كانوا على باطل، فكان تعذيبنا لهم حقاً.


ولما كان المتعنت ربما قال: ما له يخلقهم ثم يهلكهم وهو عالم حين خلقهم أنهم يكذبون؟ وكانت هذه الآية ملتفتة- مع ما فيها من ذكر الأرض- إلى تلك التي أتبعها ذكر الخافقين، استدلالاً على الساعة، قال على ذلك النمط: {وما خلقنا} أي على عظمتنا {السماوات} أي على ما لها من العلو والسعة {والأرض} على ما بها من المنافع والغرائب {وما بينهما} من هؤلاء المكذبين وعذابهم، ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك {إلا بالحق} أي خلقاً ملتبساً بالحق، فيتفكر فيه من وفقه الله فيعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى، أو بسبب الحق من إثبات ثوابت الأمور ونفي مزلزلها، لتظهر عظمتنا بإنصاف المظلوم من الظالم، وإثابة الطائع وعقاب العاصي في يوم الفصل- إلى غير ذلك من الحكم كما قال تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31] فمن أمهلناه في الدنيا أخذنا منه الحق بعد قيام الساعة، فلا بد من فعل ذلك {وإن الساعة لآتية} لأجل إقامة الحق لا شك في إتيانها لحكم علمها سبحانه فيظهر فيها كل ذلك، ويمكن أن يكون التقدير: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما فعلنا ذلك إلا بالأمر من قولنا كن وهو الحق {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بالأمر {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] يعني أنه لا مشقة علينا في شيء من ذلك، وسنعدم ذلك بالحق إذا أردنا قيام الساعة، وأن الساعة لآتيه، لأنا قد وعدنا بذلك، وليس بينكم وبين كونها إلا أن نريد فتكون كما كان غيرها مما أردناه {فاصفح الصفح} أي فأعرض- بسبب تحقق الأخذ بثارك- الإعراض {الجميل} بالحلم ولإغضاء وسعة الصدر، في مثل قولهم {ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} فإنه لا بد من الأخذ لك منهم بالحق ولو لم يكن لك نصرة إلا في ذلك اليوم لكانت كافية؛ ثم علل هذا الأمر بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك الآمر لك بهذا {هو} أي وحده {الخلاّق} المتكرر منه هذا الفعل في كل وقت بمجرد الأمر، فلا عجب في إيجاد ما ينسب إليه من إبداع الساعة أو غيرها، وهو لذلك عالم بأحوالكم أجمعين وما يكون منها صلاحاً لك على غاية الحكمة، لأن المصور أعلم بالصورة من ناظرها والمتبصر فيها، وصانع الشيء أدرى به من مشتريه، وباني البيت أخبر به من ساكنه، وهو الذي خلق كل ما تراه منهم فهو فعله فسلم له.
ولما كان إحكام المصنوعات لا يتم إلا بالعلم، قال تعالى: {العليم} أي البالغ العلم بكل المعلومات، فلا ترى أفعالهم وأقوالهم إلا منه سبحانه لأنه خالقها، وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك، فإنه نعم المولى ونعم النصير، ولا يخفي عليه شيء منه؛ ويدل على ما قلته آية يس {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم} [يس: 81] أو يقال: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون شيئاً مما أردنا من الحق، لأنا ما خلقنا عذابهم إلا بالحق كما خلقناهم بالحق، فلم يمتنع علينا شيء من ذلك {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بسبب إقامة الحق وإظهار أمرنا في العدل، ولولا أن سلطنا بعض الناس على بعض لم يظهر لهم منا هذه الصفة غاية الظهور، فنحن نعجل من الحق الذي خلقنا ذلك بسببه على قيام الساعة- ما شئنا من الابتلاء والانتقام كما فعلنا ممن قصصنا أمرهم، ونؤخر من ذلك ما بقي إلى قيام الساعة {وإن الساعة لآتية} لا شك فيها، فلا ندع هناك شيئاً من الحقوق إلا أقمناه {فأصفح الصفح الجميل} فلا بد من الأخذ لك بحقك إما في الدنيا وإما في الآخرة أن أي لأن {ربك هو الخلاّق} أي الفاعل للخلق مرة بعد مرة، لا تنفذ قدرته ولا تهن كلمته {العليم} التام العلم، فهو قادر على ذلك عالم بوجه الحكمة فيه في وقته وكيفيته، فهو يعيد الخلائق في الساعة كما بدأهم، ويستوفي إذ ذاك جميع الحقوق ويؤتيك في ذلك اليوم ما يقر به عينك.
ولما ذكر صفة العلم بصيغة المبالغة، أتبعها ما آتاه في هذه الدار من مادة العلم بصيغة العظمة، فقال عطفاً على ما قدرته مما دل عليه السياق: {ولقد آتيناك} مما يدل على علمنا {سبعاً من المثاني} وهي الفاتحة الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن فتثني في النزول فإنها نزلت مرتين، وتثني في كل ركعة من الصلاة، وهي ثناء على الله والصالحين من عباده، وهي مقسومة بين الله وعبده، وتثني فيه مقاصدها، ويورد كل معنى من معانيها فيه بطرق مختلفة في إيضاح الدلالة عليه في قوالب الألفاظ وجواهر التراكيب الهادية إليه- وغير ذلك من التثنية {والقرآن العظيم} أي الحاوي لجميع علوم الأولين والآخرين مما في جميع الكتب السالفة وغيره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6